كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {يَقولواْ سحاب مَّرْكُومٌ} إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يقولوا لم يقع شيء على الأرض يرجعون إلى التأويل والتخييل وقوله: {مَّرْكُومٌ} أي مركب بعضه على بعض كأنهم يدفعون عن أنفسهم ما يورد عليهم بأن السحاب كالهواء لا يمنع نفوذ الجسم فيه، وهذا أقوى مانع فيقولون إنه ركام فصار صلبًا قويًا.
المسألة السادسة:
في إسقاط كلمة الإشارة حيث لم يقل: يقولوا هذا، إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العناد فلا يستحسنون أن يأتوا بما لا يبقى معه مراء فيقولون {سحاب مَّرْكُومٌ} مع حذف المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقول عند تكذيب الخلق إياهم، قلنا {سحاب مَّرْكُومٌ} شبهه ومثله، وأن يتمشى الأمر مع عوامهم استمروا، وهذا مجال من يخاف من كلام ولا يعلم أنه يقبل منه أو لا يقبل، فيجعله ذا وجهين، فإن رأى النكر على أحدهما فسّره بالآخرون وإن رأى القبول خرج بمراده.
{فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)} أي إذا تبين أنهم لا يرجعون فدعهم حتى يلاقوا وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{فَذَرْهُمْ} أمر وكان يجب أن يقال لم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم جواز دعائهم إلى الإسلام وليس كذلك، والجواب عنه من وجوه أحدها: أن هذه الآيات مثل قوله تعالى: {فَأَعْرَضَ} [النساء: 63] و{تَوَلَّ عَنْهُمْ} [الصافات: 178] إلى غير ذلك كلها منسوخة بآية القتال وهو ضعيف، ثانيها: ليس المراد الأمر وإنما المراد التهديد كما يقول سيد العبد الجاني لمن ينصحه دعه فإنه سينال وبال جنايته ثالثها: أن المراد من يعاند وهو غير معين والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الخلق على سبيل العموم ويجوز أن يكون المراد بالخطاب من لم يظهر عناده لا من ظهر عناده فلم يقل الله في حقه {فَذَرْهُمْ} ويدل على هذا أنه تعالى قال من قبل {فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ} [الطور: 29] وقال هاهنا {فَذَرْهُمْ} فمن يذكرهم هم المشفقون الذين {قالواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26] ومن يذرهم الذين قالوا {شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] إلى غير ذلك.
المسألة الثانية:
{حتى} للغاية فيكون كأنه تعالى قال: ذرهم إلى ذلك اليوم ولا تكلمهم ثم ذلك اليوم تجدد الكلام وتقول ألم أقل لكم إن الساعة آتية وإن الحساب يقوم والعذاب يدوم فلا تكلمهم إلى ذلك اليوم ثم كلمهم لتعلمهم ثانيها: أن المراد من حتى الغاية التي يستعمل فيها اللام كما يقول القائل لا تطعمه حتى يموت أي ليموت، لأن اللام التي للغرض عندها ينتهي الفعل الذي للغرض فيوجد فيها معنى الغاية ومعنى التعليل ويجوز استعمال الكلمتين فيها ولعلّ المراد من قوله تعالى: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99] هذا أي إلى أن يأتيك اليقين، فإن قيل فمن لا يذره أيضًا يلاقي ذلك اليوم، نقول المراد من قوله: {يُصْعَقُونَ} يهلكون فالمذكر المشفق لا يهلك ويكون مستثنى منهم كما قال تعالى: {فَصَعِقَ مَن في السموات وَمِنَ الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} [الزمر: 68] وقد ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق وعلم أن يوم الحساب كائن فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه، ومن لا يعلم يكون كالغافل، فإذا وقعت الصيحة ارتجف الغافل ولم يرتجف العالم، وحينئذ يكون التوعد بملاقاة يومهم لأن كل أحد يلاقي يومه وإنما يكون بملاقاة يومهم الذي فيه يصعقون، أي اليوم الموصوف بهذه الصفة، وهذا كما قال تعالى: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بالعراء وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] فإن المنفي ليس النبذ بالعراء لأنه تحقق بدليل قوله تعالى: {فنبذناه بالعراء وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] وإنما المنفي النبذ الذي يكون معه مذمومًا وهذا لم يوجد.
المسألة الثالثة:
{حتى} ينصب ما بعدها من الفعل المستقبل تارة ويرفع أخرى والفاصل بينهما أن الفعل إذا كان مستقبلًا منتظرًا لا يقع في الحال ينصب تقول تعلمت الفقه حتى ترتفع درجتي فإنك تنتظره وإن كان حالًا يرفع تقول أكرر حتى تسقط قوتي ثم أنام، والسبب فيه هو أن حتى المستقبل للغاية ولام التعليل للغرض والغرض غاية الفعل، تقول لم تبنى الدار يقول للسكنى أنصار قوله حتى ترفع كقوله لأرفع وفيهما إضمار أن، فإن قيل ما قلت شيئًا وما ذكرت السبب في النصب عند إرادة الاستقبال والرفع عند إرادة الحال، نقول الفعل المستقبل إذا كان منتظرًا وكان تصب العين ومنصوبًا لدى الذهن يرقبه يفعل بلفظه ما كان في معناه، ولهذا قالوا في الإضافة أن المضاف لما جر أمرًا إلى أمر في المعنى جزء في اللفظ، والذي يؤيد ما ذكرنا أن الفعل إنما ينصب بأن ولن وكي وإذن، وخلوص الفعل للاستقبال في هذه المواضع لازم والحرف الذي يجعل الفعل للحال يمنع النصب حيث لا يجوز أن تقول إن فلانًا ليضرب فإن قيل: السين وسوف مع أنهما يخلصان الفعل للاستقبال لا ينصبان ويمنعان النصب بالناصب كما في قوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} [المزمل: 20] نقول: سوف والسين ليسا بمعنى غير اختصاص الفعل بالاستقبال وأن ولن بمعنى لا يصح إلا في الاستقبال فلم يثبت بالسين إلا الاستقبال ولم يثبت به معنى في الاستقبال والمنتظر هو ما في الاستقبال لا نفس الاستقبال، مثاله إذا قلت أعبد الله كي يغفر لي أو ليغفر لي أثبتت كي غرضًا وهو المغفرة، وهي في المستقبل من الزمان، وإذا قلت: أستغفرك ربي أثبتت السين استقبال المغفرة، وفرق بين ما يكون المقصود من الكلام بيان الاستقبال، لكن الاستقبال لا يوجد إلا في معنى فأتى بالمعنى ليبين به الاستقبال وبين ما يكون المقصود منه معنى في المستقبل فتذكر الاستقبال لتبين محل مقصودك.
{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)}.
لما قال: {يلاقوا يَوْمَهُمُ} [الطور: 45] وكل بر وفاجر يلاقي يومه أعاد صفة يومهم وذكر ما يتميز به يومهم عن يوم المؤمنين فقال: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي} وهو يخالف يوم المؤمنين فإنه تعالى قال فيه {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} [المائدة: 119] وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في {يَوْمَ لاَ يُغْنِي} وجهان الأول: بدل عن قوله: {يَوْمَهُمُ} [الطور: 45] ثانيهما: ظرف {يلاقوا} أي يلاقوا يومهم يوم، فإن قيل هذا يلزم منه أن يكون اليوم في يوم فيكون اليوم ظرف اليوم نقول هو على حد قول من يقول يأتي يوم قتل فلان يوم تبين جرائمه ولا مانع منه، وقد ذكرنا بحث الزمان وجواز كونه ظرفًا في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} وجواز إضافة اليوم إلى الزمان مع أنه زمان.
المسألة الثانية:
قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ} ولم يقل يوم لا يغنيهم كيدهم مع أن الإغناء يتعدى بنفسه لفائدة جليلة وهي أن قول القائل أغناني كذا يفهم منه أنه نفعني، وقوله أغنى عني يفهم منه أنه دفع عني الضرر وذلك لأن قوله أغناني معناه في الحقيقة أفادني غير مستفيد وقوله: أغنى عني، أي لم يحوجني إلى الحضور فأغنى غيري عن حضوري يقول من يطلب لأمر: خذوا عني ولدي، فإنه يغني عني أي يغنيكم عني فيدفع عني أيضًا مشقة الحضور فقوله: {لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ} أي لا يدفع عنهم الضرر، ولا شك أن قوله لا يدفع عنهم ضررًا أبلغ من قوله لا ينفعهم نفعًا وإنما في المؤمن لو قال يوم يغني عنهم صدقهم لما فهم منه نفعهم فقال: {يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] كأنه قال يوم يغنيهم صدقهم، فكأنه استعمل في المؤمن يغنيهم وفي الكافر لا يغني عنهم وهو مما لا يطلع عليه إلا من يكون عنده من علم البيان طرف ويتفكر بقريحة وقادة آيات الله ووفقه الله.
المسألة الثالثة:
الأصل تقديم الفاعل على المفعول والأصل تقديم المضمر على المظهر، أما في الأول فلأن الفاعل متصل بالفعل ولهذا قالوا فعلت فأسكنوا اللام لئلا يلزم أربع متحركات في كلمة واحدة وقالوا ضربك ولم يسكنوا لأن الكاف ضمير المفعول وهو منفصل، وأما تقديم المضمر فلأنه يكون أشد اختصارًا، فإنك إذا قلت ضربني زيد يكون أقرب إلى الاختصار من قولك ضرب زيد إياي فإن لم يكن هناك اختصار كقولك مربي زيد ومربي فالأولى تقديم الفاعل، وههنا لو قال يوم لا يغنيهم كيدهم كان الأحسن تقديم المفعول، فإذا قال يوم لا يغني عنهم صار كما قلنا في مر زيد بي فلم لم يقدم الفاعل، نقول فيه فائدة مستفادة من علم البيان، وهو أن تقديم الأهم أولى فلو قال يوم لا يغني كيدهم كان السامع لهذا الكلام ربما يقول لا يغني كيدهم غيرهم فيرجو الخير في حقهم وإذا سمع لا يغني عنهم انقطع رجاؤه وانتظر الأمر الذي ليس بمغن.
المسألة الرابعة:
قد ذكرنا أن معنى الكيد هو فعل يسوء من نزل به وإن حسن ممن صدر منه، فما الفائدة في تخصيص العمل الذي يسوء بالذكر ولم يقل يوم لا يغني عنهم أفعالهم على الإطلاق؟ نقول هو قياس بالطريق الأولى لأنهم كانوا يأتون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم فقال ما أغنى أحسن أعمالهم الذي كانوا يعتقدون فيه ليقطع رجاءهم عما دونه، وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال من قبل {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [الطور: 42] وقد قلنا إن أكثر المفسرين على أن المراد به تدبيرهم في قتل النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هُمُ المكيدون} أي لا ينفعهم كيدهم في الدنيا فماذا يفعلون يوم لا ينفعهم ذلك الكيد بل يضرهم وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} فيه وجوه أحدها: أنه متمم بيان وجهه هو أن الداعي أولًا يرتب أمورًا لدفع المكروه بحيث لا يحتاج إلى الانتصار بالغير والمنة ثم إذا لم ينفعه ذلك ينتصر بالأغيار، فقال لا ينفعهم أفعال أنفسهم ولا ينصرهم عند اليأس وحصول اليأس عن إقبالهم ثانيها: أن المراد منه ما هو المراد من قوله تعالى: {لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونَ} [ياس: 23]، فقوله: {يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} أي عبادتهم الأصنام، وقولهم {هَؤُلاء شفعاؤنا} [يونس: 18] وقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا} [الزمر: 3] وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}، أي لا نصير لهم كما لا شفيع، ودفع العذاب، إما بشفاعة شفيع أو بنصر ناصر ثالثها: أن نقول الإضافة في كيدهم إضافة المصدر إلى المفعول، لا إضافته إلى الفاعل، فكأنه قال لا يغني عنهم كيد الشيطان إياهم، وبيانه هو أنك تقول أعجبني ضرب زيدًا عمرًا، وأعجبني ضرب عمرو، فإذا اقتصرت على المصدر والمضاف إليه لا يعلم إلا بالقرينة والنية، فإذا سمعت قول القائل، أعجبني ضرب زيد يحتمل أن يكون زيد ضاربًا ويحتمل أن يكون مضروبًا فإذا سمعت قول القائل، أعجبني قطع اللص على سرقته دلّت القرينة على أنه مضاف إلى المفعول، فإن قيل هذا فاسد من حيث إنه إيضاح واضح لأن كيد المكيد لا ينفع قطعًا، ولا يخفى على أحد، فلا يحتاج إلى بيان، لكن كيد الكائد يظن أنه ينفع فقال تعالى: ذلك لا ينفع، نقول كيد الشيطان إياهم على عبادة الأصنام وهم كانوا يظنون أنها تنفع، وأما كيدهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون أنه لا ينفع في الآخرة وإنما طلبوا أن ينفعهم في الدنيا لا في الآخرة فالإشكال ينقلب على صاحب الوجه الأول ولا إشكال على الوجهين جميعًا إذا تفكرت فيما قلناه.
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)}.
في اتصال الكلام وجهان أحدهما: متصل بقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ} [الطور: 45] وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال، وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال، وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقًا من غير قتال، بل لهم قبل يوم القيامة عذاب يوم بدر حيث تؤمر بقتالهم، فيكون بيانًا وعدًا ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر ثانيهما: هو متصل بقوله تعالى: {لاَ يُغْنِي} [الطور: 46] وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم، ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ولكن لا يضر ولما قال مع ذلك {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَابًا} زال ذلك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الذين ظلموا هم أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر، وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم.
المسألة الثانية:
ما المراد من الظلم ههنا؟ نقول فيه وجوه الأول: هو كيدهم نبيهم، والثاني: عبادتهم الأوثان، والثالث: كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني.
المسألة الثالثة:
دون ذلك، على قول أكثر المفسرين معناه قبل ويؤيده قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر} [السجدة: 21] ويحتمل وجهين آخرين أحدهما: دون ذلك، أي أقل من ذلك في الدوام والشدة يقال الضرب دون القتل في الإيلام، ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة على هذا المعنى، وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم وذلك لأنه إذا قال عذابًا دون ذلك أي قتلًا وعذابًا في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيمًا، فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر} قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد هاهنا هذا الثاني على طريقة قول القائل: تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب، وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذابًا.
المسألة الرابعة:
{ذلك} إشارة إلى ماذا؟ نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم وفيه وجهان آخران أحدهما: في قوله: {يُصْعَقُونَ} [الطور: 45] وقوله: {يُغْنِى عَنْهُمْ} [الطور: 46] إشارة إلى عذاب واقع فقوله ذلك إشارة إليه، ويمكن أن يقال قد تقدم قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7] وقوله: {دُونِ ذَلِكَ}، أي دون ذلك العذاب ثانيهما: {دُونِ ذَلِكَ}، أي كيدهم فذلك إشارة إلى الكيد وقد بينا وجهه في المثال الذي مثلنا وهو قول القائل: تحت لجاجك حرمانك، والله أعلم.
المسألة الخامسة:
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذكرنا فيه وجوهًا أحدها: أنه جرى على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر كما قال تعالى: {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 41] ثم إن الله تعالى تكلم على تلك العادة ليعلم أن الله استحسنها من المتكلم حيث يكون ذلك بعيدًا عن الخلف ثانيها: منهم من آمن فلم يكن ممن لا يعلم ثالثها: هم في أكثر الأحوال لم يعلموا وفي بعض الأحوال علموا وأقله أنهم علموا حال الكشف وإن لم ينفعهم.
المسألة السادسة:
مفعول {لاَّ يَعْلَمُونَ} جاز أن يكون هو ما تقدم من الأمر: وهو أن لهم عذابًا دون ذلك، وجاز أن لا يكون له مفعول أصلا، فيكون المراد أكثرهم غافلون جاهلون.
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)}.
وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {فاصبر على مَا يَقولونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} [طه: 130] ونشير إلى بعضه هاهنا فإن طول العهد ينسي، فنقول لما قال تعالى: {فَذَرْهُمْ} [الطور: 45] كان فيه الإشارة إلى أنه لم يبق في نصحهم نفع ولا سيما وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفًا مّنَ السماء} [الطور: 44] وكان ذلك مما يحمل النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء كما قال نوح عليه السلام {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] وكما دعا يونس عليه السلام فقال تعالى: {واصبر} وبدل اللعن بالتسبيح {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} بدل قولك اللّهم أهلكهم ألا ترى إلى قوله تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} [القلم: 48] وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} فيه وجوه الأول: أنه تعالى لما بيّن أنهم يكيدونه كان ذلك مما يقتضي في العرف المبادرة إلى إهلاكهم لئلا يتم كيدهم فقال: اصبر ولا تخف، فإنك محفوظ بأعيننا ثانيها: أنه تعالى قال فاصبر ولا تدع عليهم فإنك بمرأى منا نراك وهذه الحالة تقتضي أن تكون على أفضل ما يكون من الأحوال لكن كونك مسبحًا لنا أفضل من كونك داعيًا على عباد خلقناهم، فاختر الأفضل فإنك بمرأى منا ثالثها: أن من يشكو حاله عند غيره يكون فيه إنباء عن عدم علم المشكو إليه بحال الشاكي فقال تعالى: اصبر ولا تشك حالك فإنك بأعيننا نراك فلا فائدة في شكواك، وفيه مسائل مختصة بهذا الموضع لا توجد في قوله: {فاصبر على مَا يَقولونَ} [طه: 130].